لسانيات عامة

هاجس الاهتمام بالعلمية و التّاريخ :شهد القرن التّاسع عشر تغيُّرا واضحا في مناحي الحياة المُختلفة. فمن النّاحية الفكرية  تمّ انتشار الجامعات وتبادل المعارف بين القارّات خاصّة بين أمريكا وأوروبا، وبات تعليم القراءة والكتابة قضية تهم الحكّام والسّاسة ، وظهرت إلى الوُجود جمعيات علمية تبَُثُّ المعارف والأفكار متوسّلة  بدوريات تابعة لها، ففشا النّشر ، وأضحى  التّفكير بالعودة إلى التّاريخ  هاجسا عامّا ساور اللُّغويين و السّياسيين والقادة والأباطرة وغيرهم حتّى ولو نحا ذلك الهاجس عند بعضهم نحوا غير مُباشر ، فهاهو ذا رجل الدّولة الفرنسي "نابليون الأوّل أو"نابليون بونابرت" « Napoléon Bonaparte » (1779-1821) مثلا  يُشجّع العلماء أثناء حملته على مصر على البحث والتّنقيب الأثري محاولا الكشف عن العلاقات التّاريخية لفرنسا بحضارات الشّرق الأوسط والبحر المُتوسّط .وفي هذا السّياق بالذّات بدت بوادر عالمنا الحالي إذ لا زال علماء القرن التّاسع عشر ضمن ذاكرتنا الحيّة نتّخذهم مصدرا لعُلُومنا ونستشهد في القسم الغالب من أعمالنا البحثية والعلمية بما كانوا قد ذهبوا إليه .

عُلماء اللُّغة في القرن التّاسع عشر: ظهر على السّاحة اللُّغوية في هذا القرن عُلماء يتجاوزون العد ،فإذا وددنا أن نذكر بعضا منهم  جئنا على ذكر اللُّغوي الألماني المُتخصّص في الأدب والرّواية و الفيلولوجيا "جاكوب غريم" «Jacob Ludwig Karl  Grimm » (1785-1865) واللُّغوي الأمريكي المُتخصّص في الفيلولوجيا وعلم المعاجم والدّراسات الشّرقية "وليام ويتني" «William Dwight Whitney » (1827-1894)، واللُّغوي الألماني المُتخصّص في الفيلولوجيا والدّراسات الشّرقية "ماكس مولر"   « Max Friedrich Müller » (1823-1900) ، واللُّغوي البريطاني المتخصّص في الفيلولوجيا المقارنة والصّوتيات "هنري سويت"  « Henry Sweet » (1845-1912) ، واللُّغوي الألماني المُتخصّص في الألسُن الهندوأوروبية "كارل بريجمان"  «Karl Brugmann » (1849-1919)، واللُّغوي السويسري المُتخصّص في الفيلولوجيا والألسُن الرومانية (من النُّحاة الجُدد)"ماير لوك"«Wilhelm Meyer Lübke » (1861-1936). وتلك أمثلة من القلّة بحيث لا تكاد تُذكر.(تحتاج هذه النُّقطة إلى توسعة)

قضايّا اللُّغة بين التّاريخ والمقارنة: لا يخفى على القارئ أنّ  عبارة "دراسة الألسُن من حيث التّاريخ ومُقارنة بعضها ببعض"  لا يُمكن أن تُفهم على الإطلاق (أي على عواهنها أو كيفما اتّفق) ، فهي عبارة ذات إطار خاص. ولا مناص من فهم ذلك الإطار وفق  المسعى النّاجح  للمفاهيم النّظرية والمنهجية  بحيث تظهر الصورة واضحة  ومُقنعة ومتوازنة  ومُستمرّة. فالقرن التّاسع عشر لم يتوقّف عن البحوث الّتي تخرج عن إطار التّاريخ والمُقارنة ليتفرّغ لذلك فقط. كما أنّنا لا ننفي أبدا  وُجود دراسات من هذا النّوع تمّت بالفعل إلى وقت  ما  قبل القرن التّاسع عشر مثل ما قام به "دانتي"(1265-1321) الّذي  القرابة بين الألسُن الرّومانية بوُضوح  وعلاقتها باللاّتينية.و "ج.ج. سكاليجر" (1540-1609) و "لايبنز" (1646-1716) وغيرهم، ولكنّها كانت في مجملها لا تكاد تخرج عن كونها  ردود أفعال، وعلى الرُّغم من عمقها أحيانا إلاّ أنّها ظلّت تعاني العزلة وعدم التّجانس.إضافة إلى كونها لم تُراجع  بعض الأفكار الخاطئة : مثل انحدار اللاّتينية من إحدى اللّهجات اليونانية واعتبار العبرية أصلا (أو مصدراً)لكل الألسُن. [i]

ولكنّ ذلك لم يمنع من سيادة الدّراسة التّاريخية من جهة (باعتبارها تفسيرا للتّطوُّر وتحليلا للتّكامُل القديم ) ، إذ اعتمد  علم اللغة في القرن التاسع عشر على التراث الثقافي والأيديولوجي للتاريخية بشكل يكاد يكون تامّا. وذلك، لأنّه كان   للاهتمام بالتاريخ مصادر كثيرة للإلهام. منها الحركة الرومانسية خاصّة ، التي يُعرف شغفُها بالأزمنة البعيدة والبيئات البدائية والرّيفية. وليس هذا فحسب.بل إنّ إدراج أفكار التطوُّر في العلوم البيولوجية الّتي ظهرت لاحقا في الدّاروينية وانعكست بعدها على المُجتمع (عند "ش. سبنسر" « H. Spencer » ) لم تترك مجالا للُّغة لتنجو من تأثيرها.ولا يزال ذلك الإرث ذا أثر محسوس في المجال اللُّغوي. إنّ الفكرة القائلة بوجود علاقة سببية بين الزّمن والأصل عائدة إلى التّاريخية.لقد سادت أداة تفسير في عُلوم شتّى. فما زلنا نعتقد أن حقيقة اللغة كامنة في حالة لغة سابقة. وهكذا يتم تفسير الكلمات والصّيغ بالاعتماد على أصلها.[ii]  ومن جهة ثانية سادت   المُقارنة (باعتبارها مفتاحا للتّاريخ المُبكّر) البُحوث اللُّغوية في القرن التّاسع عشر حتّى أصبحتا (التّاريخية والمقارنة) خاصية التّفكير العلمي للعصر، وكان مُعظم دارسي هذا النّهج من الألمان الّذين أخذوا على عاتقهم تطوير المنهج والنّظرية. وكان أساس هذا التّطوير قائما على اكتشاف أوروبا "للسنسكريتية" لأنّ بعضهم كان من عُلماء هذا اللّسان بالفعل مثل الأخوين "شليغل" و "فرانز بوب" « Franz Bopp »(1791-1867) صاحب كتاب « On the conjugation system of sanskrit, incomparison with that of Greek, latin,  Persian, and German ».    سنة 1816، و كتاب " « Comparative grammar » " و"أ.ف. بوت" «  A.F. Pott »(1802-1887)، صاحب كتاب « Etomological investigations in the field of the indogermanic  languages » [iii]،و"تيودور. بنفي" « T. Benfey » (1809-1881) صاحب كتاب « The history of linguistics and Oriental philology in Germany ».ويُمكن القول أنّ الدّراسة المُقارنة والتّاريخية للأسرة الهندوأوروبية قد بدأت مع كل من "دان ر. راسك"  « Dane R. Rask » (1787-1832) الّذي كشف عن بعض معايير القرابة بين الألسُن ، و"ج. غريم" « J. Grimm »(1785-1863) صاحب كتاب "القواعد الجرمانية" Grammatik » Deutsche «  الّذي أغنى عُلوم اللُّغة بمجموعة من المُصطلحات  ، ووضع القانون المعروف باسمه « La loi de GRIMM » سنة 1822،بالإضافة إلى "هيمبولدت"  الّذي ينتمي إلى القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر كليهما، ذاك الّذي كتب بغزارة في عُلوم اللُّغة والّذي يبدو أنّه كان مُهتمّا بالنّحو والدّّلالة (أي الجانب الإبداعي في اللُّغة) ، فاللُّغة عنده قُدرة وهو ما قاده إلى مفهوم الشّكل ومفهوم التّقطيع ، وليس خفيا على أحد  شُهرة مُصطلح الإبداع عند التّوليديين في النّصف الثّاني من القرن العشرين .وحتّى فكرة الاعتباطية ، الّتي سنتحدّث عنها لاحقا ،فإنّ تطويرها التّام كان على يد "هيمبولدت" في إطار رؤية العالم (أو النّظرة الكلية) « Weltanschauung ». إن المفهوم الداخلي للغة « Sprachform » (= الشكل اللغوي الداخلي) قد أعد الأرضية للشكل "  السوسيري "  و البُنى العميقة للمدارس البنيوية المختلفة فيما بعد .ورُبّما كان في طيّات غزارة علم "هيمبولدت" بعض الأثر لـ"جورج ولهالم فريدريك هيغل"  « Georg wilhelm friedrich Hegel » (1770-1831) ولـ"هردر" ولـ"إيمانويل كانت" « Emmanuel Kant »(1724-1804) أيضا.والتّمييز بين  النّحو والدّّلالة تمييز تعليمي فقط ، كما أنّ اللُّغة والفكر أمران لا يستقل أحدُهما عن الآخر، واختلاف الألسُن لا يتوقّف عند الاختلاف الصّوتي، بل يتجاوزه إلى الاختلاف في تفسير المُتكلّمين وفهمهم للعالم (رؤية العالم)، فالنّاس أصحاب الألسُن المُختلفة يعيشون في عوالم مُختلفة.لقد ألهمت  أفكار "هيمبولدت" باحثين لغويين معروفين أمثال اللُّغوي الألماني"جوهان ليو.فسجربر" «Johannes Leo Weisgerber »(1899-1985)، والأنثروبولوجي وعالم الآثار واللُّغوي والطّبيب والكاتب والمُترجم "دانيال غاريسون برينتون" « Daniel Garrison Brinton » (1837-1899)، والأنثروبولوجي واللُّغوي والفيلسوف والمُهتم بتاريخ الفُنون صاحب الجنسية الألمانية والبروسية والأمريكية"فرانز بواس" « Franz Boas » (1858-1942)، والأنثروبولوجي واللُّغوي وعالم الاجتماع والفيلسوف والإثنولوجي البروسي الأمريكي "إدوارد سابير" « Edward Sapir » (1884-1939)، والأنثروبولوجي واللُّغوي والفيلسوف "بنيامين لي وورف" « Benjamin Lee Whorf » ومدارس كثيرة في الفن و في علم النّفس. وربّما عُرف "هيمبولدت" أكثر بتقسيمه الألسُن إلى ثلاثة فئات هي: الألسُن التّصريفية « Les langues flexionnelles » مثل "السنسكريتية"والألسُن الإلصاقية « Les langues agglutinantes »  (تحتاج إلى مثال) والألسُن العازلة " « Les langues isolantes »  مثل "الصّينية" وذلك بناء على الصّيغة الصّرفية للكلمة.وتبعه في ذلك ثُلّة من اللُّغويين.ومثل ما للألسُن من تقسيمات وفق أنماط، فللجمل عنده أنماط أيضا.والواقع أنّ لــ"هيمبولدت" فضل كبير على الدّراسات المُقارنة خاصّة ، فهو "أول من وضع أسس علم اللغة المقارن الحقيقي حيث ساهمت اللغات الأكثر تنوعًا ، والتي أصبح متخصصًا فيها (الباسكية ، والمجرية ، والأمريكية ، والإندونيسية) ، في إحداث الفارق في صورة اللغة وترسيخ ما هو  ثابت في التنوُّع".[iv]

 إن أفكار الشكل و الاعتباطية (التعسف) ، أفكار أساسية في أي بنيوية "سوسيرية" ، هي أيضًا أساس النظرية الكامنة وراء المقارنة. يجب أيضًا استبعاد اقتراض لسان  من لسان آخر من المقارنة ، كونه نتاج الاحتكاك الثقافي  للألسُن ، وهو ظاهرة شائعة ، سواء كانت الألسُن ذات قرابة أو لم تكن. و ينطبق الأمر نفسُه على الصّيغ  المقلدة والتعبيرية (صوت الماء ، صوت الريح...) التي يمكن تفسير وجودها في ألسُن مختلفة من خلال هوية الظواهر التي ترمز إليها ( الأصوات في الطبيعة).وهُناك بعض الألسُن الّتي تأخذ  اسم الحيوان مثلا اعتمادا على الصّوت الّذي يُصدره مثل "ديك" في الفرنسية « Coq » . لذلك فإن المبادئ الأساسية للمقارنة هي  الاعتباطية (تعسف)  العلامات (الكلمات ، الصّيغ ) مقابل المرجع  (= ما نتحدث عنه) وثبات القوانين الصوتية. إذا كان من الممكن أن تُعزى أوجه التشابه أو التطابق بين لغتين إلى أحد العوامل المذكورة هنا (الاقتراض ، والتقليد ، والتعبير) ، فإنها لا تسمح بأي استنتاج يتعلق بأصل مشترك ، ولكنها لا تستبعده أيضًا. الانفصال  بين (أنظمة) العلامات والعالم الخارجي هو الأساس الضروري للإجراءات المقارنة.وهو مبدأ  دال على قوّة المقارنة وضعفها في آن. نحن لا نعلم أنّ علامات اللّسان اعتباطية   100    %   إلاّ استثناءً، كما نعلم أن فصل العلامة على المرجع هي عملية تجريد يلجأ إليها الباحث لتبسيط  مُشكلته. تظهر المقارنة بين الألسُن  الثبات الوظيفي في مظاهر ملموسة مختلفة.تمّ استبدال البُعد التّاريخي بالآني ليُشكل لسانيات "سوسيرية" جديدة سُمّيت فيما بعد بالبنيوية.[v]

 



[i] يُنظر: ر.هـ. روبنز: م.س. ص. 138 وما بعدها.

[ii] BERTIL MALMBERG, Analyse du langage au X X Théories et méthodes, PRESSES UNIVERSITAIRES DE France, 1983, p.12

[iii] Voir,  A. F. POTT, Etymologische Forschungen auf dem Gebiete der indogermanischen Sprachen, Lemgo, 1833-6.

[iv] BERTIL MALMBERG, Analyse du langage au X X Théories et méthodes, PRESSES UNIVERSITAIRES DE France, 1983, p.13

 

[v] BERTIL MALMBERG, Analyse du langage au X X Théories et méthodes, PRESSES UNIVERSITAIRES DE France, 1983, pp.16-17

Teacher: djilali tahar